العالم ما بعد كورونا .. ما أحوجني إليك يا صديقي


كلنا نطرح هذا السؤال المثير عن شكل العالم الذي سنعيش فيه بعد تجاوز مرحلة الخطر الأكبر المتمثل في جائحة كورونا التي قلبت حياة المجتمعات والأفراد رأسا على عقب. ولكن من يطمح إلى الإجابة عنه سيعاني صعوبة في قول الجديد، فقد كتبت خلال الأسابيع القليلة الماضية آلاف المقالات عن الموضوع، وعرضت مئات الأفكار، وقُدمت مئات أخرى من التوقعات، بل والتنبؤات التي تقوم في جلها على دراسات وإحصاءات، وبعضها على ما قد يكون قيل قبل مئات السنين من قبل منجمين، أو فوالين، أو دجالين. وجولة في عالم اليوتيوب تكشف حجم الكارثة الإعلامية التي نعيشها، فهناك مواقع لا تحصى لمن هب ودب ممن يطلقون على أنفسهم ألقابا أبسطها “خبير استراتيجي”. وبعض من هؤلاء يرسمون، على ضوء معلومات مختلقة في الغالب، صورة قاتمة للعالم الذي نحن مقبلون على الولوج فيه.

نحن، الناس البسطاء، لن نسمح لأنفسنا بالضياع في عالم المعلومات الرقمية ذات الطابع التجاري، أو الأيديولوجي التي تبني على أفكار الصراع والبقاء للأقوى. لقد أعطى الله كل إنسان عقلا ليتفكر به، ويتخذه دليلا في الظلمات والنور، وأعطى كل إنسان حسا سليما، دون أدنى شك. وعندما تطغى أمواج المعلومات المضللة والمغرضة، ويكثر الأنبياء الكذابون، فليس للإنسان إلا عقله، وحسه السليم ليجد بهما طريقه.

هنا في الدنمارك كنا قبل كورونا نعيش حلما جميلا، فالرفاهية متوفرة للأغلبية الساحقة، وأسباب العيش متوفرة إلى حد الإسراف والتخمة، والحريات (على قفا مين يشيل).

عمر ظاهر

لا نحتاج إلى صرف الوقت في تتبع ما يكتبه أو يقوله كل من يرى الفرصة سانحة لتحقيق غاية في نفس يعقوب، فكل منا كان جزء من عالم ما قبل كورونا، ونحن الباقون على قيد الحياة منذ بدء كورونا جزء من الحياة في ظل الأزمة، وسنكون جزء من العالم ما بعد كورونا .. إن شاء الله. ونستطيع الآن تحسس ما نحن مقبلون عليه.

قبل كورونا نعيش حلما جميلا
طبعا، تغيرت أمور كثيرة، وتعرضنا جميعا إلى هزة عنيفة، وأفقنا على حقيقة أن العالم ليس نظاما سكونيا يتكرر كل يوم بنفس الطريقة؛ إن كل شيء يمكن أن يتغير في غمضة عين، أو ينتهي، أو ينقلب إلى عكسه، ولكن بالتأكيد ليس إلى حد أن نفيق ذات يوم فنرى الشمس تطلع علينا من الغرب!
إن العالم سيبقى نفسه، وإنما بأنماط سياسية، واقتصادية، واجتماعية مختلفة. هنا في الدنمارك كنا قبل كورونا نعيش حلما جميلا، فالرفاهية متوفرة للأغلبية الساحقة، وأسباب العيش متوفرة إلى حد الإسراف والتخمة، والحريات (على قفا مين يشيل)، وكل منا يخطط للأشهر، بل وللأعوام المقبلة فيما يتعلق بكل شيء، من السفر والسياحة إلى شراء البيوت، والزواج والتقاعد، وغير ذلك. وكان الحلم الجميل تعكره ومضات قصيرة وصور تكاد لا تبقى في الذاكرة، مثلا معتوه اسمه راسموس بالودان، وانغلاق ثقافي بين الدنماركيين من أصل دنماركي والدنماركيين من أصول أخرى، وصل حد اتخاذ موقف رسمي من المصافحة التي جُعلت شرطا أساسيا للحصول على الجنسية الدنماركية.

اليوم نتعاطف بكل قوة مع فقراء أمريكا
كنا نفتقد ذلك الزمن الجميل الذي دعا فيه رئيس الوزراء الأسبق باول نيروب راسموسن الدنماركيين إلى الارتقاء بتفكيرهم (at tænke stort)، وكنا نحن ندعو الدنماركيين من أصول غير دنماركية إلى الارتقاء بتفكيرهم، فنحن نحتاج في هذا المجتمع إلى الفكر البناء، والموقف البناء، والثقة المتبادلة، والاحترام المتبادل، والتفكير بالحياة. والدنمارك يا ناس جنة مثل الصحة التي هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.

متى دعا باول نيروب الدنماركيين إلى الارتقاء بتفكيرهم؟ في الحقيقة كان ذلك في ظل أزمة لعينة، ألعن من كورونا، أثناء أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001. يومها صرنا في الدنمارك، بتحريض من اليمين المتطرف، نُعامل وكأننا نحن من قمنا بمهاجمة برجي مبنى التجارة في نيويورك. تلك الأزمة اتخذت وقتها أيضا شكل الجائحة، فقد أصدر المجنون الذي كان يترأس أمريكا يومها حكما بأن من ليس معه فهو ضده. ونحن، وبكل أمانة، وكسلوك مبرر تماما، لم نكن لنقف مع المجانين لأننا نعتبر أمريكا دولة بلا أخلاق، دولة قائمة على مذهب الربح للشركات العملاقة حتى لو كان ذلك على حساب شعبها. واليوم نتعاطف بكل قوة مع فقراء أمريكا فهؤلاء هم الضحية الأولى لكورونا في أغنى وأقوى بلد في العالم.

نعم تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك الوقت، وانحدر تفكير بعض السياسيين الدنماركيين الذين انتقلت سلطة سن القوانين إلى أيديهم إلى حد أنهم صاروا بأنفسهم يندمجون في ثقافات الأجانب التي ينتقدونها.

عمر ظاهر

لقد تخطينا جائحة الحادي عشر من أيلول 2001 بفضل الحكمة التي تحلى بها الدنماركيون من أصول عربية ومسلمة، وبفضل أحزاب اليسار الدنماركي، وقياداتها الحكيمة، ومنهم باول نيروب راسموسن.

شيزوفرينيا ثقافية
نعم تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك الوقت، وانحدر تفكير بعض السياسيين الدنماركيين الذين انتقلت سلطة سن القوانين إلى أيديهم إلى حد أنهم صاروا بأنفسهم يندمجون في ثقافات الأجانب التي ينتقدونها، بدلا من دمج الأجانب في الثقافة الدنماركية. صار وزير الاندماج نفسه، وهو أمر يؤسف له، يجبر إمرأة مسلمة على مصافحته، أو مصافحة غيره، كشرط من شروط الحصول على الجنسية الدنماركية. إنه سلوك مخجل حقا، لا يختلف قيد شعرة عن سلوك المسلم المتعصب الذي يتخذ موقفا قاسيا من المثليين. السيد الوزير يتقبل المثلي ويحترم حقه في التصرف بجسده، ولا يشترط عليه التخلي عن مثليته للحصول على الجنسية الدنماركية، لكنه لا يحترم حق إنسانة أخرى في التصرف بيدها. أقول لكم بصراحة أني أرى في هذا السلوك شيزوفرينيا ثقافية! إنه ضرب لميثاق حقوق الإنسان عرض الحائط لأغراض سياسية صبيانية.

هذه مجرد ذكريات تعود إلى أذهاننا لأننا، وهذا ليس من باب المزاح، كنا نخشى أن يُحشر اسم الإسلام في جائحة كورونا، فنتعرض لما تعرضنا له أيام جائحة الحادي عشر من أيلول 2001، أو أن ندفع ثمنا ما لهذه الجائحة التي لا ذنب لنا فيها. لو كانت أحزاب اليمين مسيطرة على برلماننا لكان هناك احتمال كبير لوقوع ذلك. ولكن، تبين لنا، والحمد لله، أننا مخطئون، وأننا نفكر انطلاقا من مخاوف الماضي، فقد ثبت خلال هذه الأزمة أن هناك الآن شعبا دنماركيا موحدا متكاتفا، ومتعاضدا في مواجهة كورونا، وأن النفس القديم في التمييز بين دنماركيين من أصل دنماركي وآخرين من أصول غير دنماركية قد اختفى، حتى أن وزير الاندماج تكرم فألغى، ولو مؤقتا، شرط المصافحة في الحصول على الجنسية الدنماركية. أقولها دائما الدنمارك بألف خير.

العالم بعد كورونا
والآن، ماذا سيحصل في العالم بعد كورونا؟ نحن غير قادرين، طبعا، على قراءة أفكار السياسيين في الدول الكبرى، الذين ليس أمرا نادرا وجود مجانين بينهم، ونحن غير قادرين على رؤية مشاريع أصحاب المليارات وكيف يخططون، كدأبهم، للاستفادة من المأساة. لكننا يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال بالنظر إلى الدنمارك، فأول ما سيحدث هنا هو أننا جميعا سيكون همنا الأساسي أن نتدارك آثار عدوان كورونا، ونسعى لتعويض الخسائر، والعودة إلى شكل من الحياة العادية مشابه لما كان قبل كورونا. سنسعى إلى تقليص البطالة، سنعمل أكثر، وقد نتقبل جميعا أن علينا أن ندفع نسبة أعلى في الضرائب. سنقوم بدون شك في التفكير جديا في تحقيق درجة معقولة من الاكتفاء الذاتي في مجالات كثيرة، وقد تضطر الدولة، تحت ضغط الناخبين، إلى رفع حصة القطاع الصحي في الموازنات المالية القادمة، خاصة أن الحكومات اليمينية منذ جائحة 11 سبتمبر 2001 عملت على قصقصة أجنحة هذا القطاع، وتقليص فعاليته. إن العالم كله سيسعى إلى ما نسعى إليه نحن كبشر عقلاء يتبعون المنطق السليم. ستفعل إيطاليا الشيء نفسه، وكذلك فرنسا، وإسبانيا، وغيرها.

ويقول لنا الحس السليم أن الدنمارك لن تشارك مستقبلا في أية حرب تشنها أمريكا على شعوب العالم الأخرى تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، مثلا، فمواردنا وإمكانياتنا سيتم ادخارها لمحاربة أي عدو مشترك للإنسانية مثل فيروس كورونا وسلالاته التي لن تنقطع حتما. هكذا سيكون سلوك دول العالم العاقلة كلها، فإن أرادت أمريكا شن أية حرب، فسوف تقوم بها لوحدها. حتى بريطانيا لن تطاوعها فقد ولى زمن توني بلير.

القرش الأبيض لليوم الأسود
بطبيعة الحال فإن كثيرا من عاداتنا ستتغير، ولو مؤقتا، فالسفر إلى الخارج من أجل السياحة سيصبح من الكماليات، وحتى لو سافرنا فإننا سنصرف أموالا أكثر على أشكال مختلفة من التأمين لضمان عودتنا إلى أرض الوطن لو حدثت “أزمة كورونا” مماثلة لما عرفناها. بالمقابل ستزدهر السياحة الداخلية. وقد تتغير حتى أنماط مصروفاتنا اليومية والشهرية. وهناك سلسلة من التغيرات الأخرى التي ستصيب خياراتنا الاقتصادية. من يدري فقد نميل، ولو مؤقتا أيضا، إلى العمل بفلسفة “القرش الأبيض لليوم الأسود”.

أليس من المنطقي أن نتوقع في الدنمارك ترسخ أقدام أحزاب اليسار في البرلمان؟ لقد خاضت هذه الأحزاب معارك ناجحة، وألقت عن أكتافنا حتى قبل كورونا الكثير من الثقل الذي حملتنا إياه الأحزاب التي وصل تفكيرها مستوى متدنيا إلى حد جعل المصافحة شرطا من شروط الحصول على الجنسية الدنماركية.

عمر ظاهر

هنا في الدنمارك لن نعرف نفس الضائقة التي يعرفها الإيطاليون، والإسبان، والفرنسيون، فقد تصرفنا نحن بسرعة وعقلانية أكبر منهم، وأبدينا انضباطا جديرا بالثناء. وهم، بالمقابل، شعوب أكثر منا عددا، وأكبر اقتصادا، ولكن لا مبرر للافتراض بأنهم لن يتصرفوا مثلنا لتعويض ما فات.

هل سنفقد تسلية راسموس بالودان؟
ماذا عن المشهد السياسي؟ أليس من المنطقي أن نتوقع في الدنمارك ترسخ أقدام أحزاب اليسار في البرلمان؟ لقد خاضت هذه الأحزاب معارك ناجحة، وألقت عن أكتافنا حتى قبل كورونا الكثير من الثقل الذي حملتنا إياه الأحزاب التي وصل تفكيرها مستوى متدنيا إلى حد جعل المصافحة شرطا من شروط الحصول على الجنسية الدنماركية. هناك كثيرون ممن يشعرون بالقلق، ليس في الدنمارك وحدها، بل في كل العالم، بأن بعض الوسائل التي تستخدم الآن لمحاربة كورونا، ومنها إمكانية جمع البيانات الشاملة من قبل أجهزة الدولة، ستستمر الدول في استخدامها، مما يمكن أن تستتبع تقييدا تاريخيا غير مسبوق للحريات الشخصية. هذا لن يحصل في الدنمارك، فالتقاليد الديمقراطية العريقة قادرة على كبح جماح من تسول له نفسه التسلط على مقدرات الأفراد.

على أية حال، فقد يكون من آثار كورونا أننا سنفتقد التسلية التي يقدمها لنا راسموس بالودان بين الحين والآخر، فالدولة لا يمكنها أن تخصص عشرات الملايين لاستعراضاته المسرحية السخيفة في وقت وصلت عندنا البطالة أرقاما قياسية. وفي الوقت نفسه فقد ترتاح آذاننا من سماع الأصوات المنكرة من الذين اعتادوا على تكوين مكانتهم في صفوف الدنماركيين من أصول مسلمة على رصيد التحريض على الروح الانعزالية، ونشر الأفكار الاستعلائية التي لا تمت للإسلام بصلة.

عالم ما بعد كورونا هو عالم يتميز بالسعي لإصلاح ما تضرر، وتعويض ما نقص. إنه أيضا عالم سنتوقف فيه مرارا لنحمد الله على ما وهبنا من نِعَم نسينا أنها نِعَم. أليست نعمة تستحق الشكر أن نعيش  في عالم لا يبعدنا بعضنا عن بعض فيروس لا تراه أعيننا؟ أن نجلس مع الأهل أو الضيوف حول طاولة واحدة ونهنأ معا بوجبة طعام؟ هل كنا نعرف أنها نعمة كبرى؟ ربما سيُنسى هذا بعد أجيال عديدة، لكن بعد كورونا مباشرة سيحمد العقلاء منا ربهم في كل لحظة وعلى كل لحظة نعيش فيها في مجتمع تتوقف حياة كل منا وسلامته ورفاهيته على سلامة الآخرين. سننظر باحترام أكبر إلى بعضنا البعض، مثلا إلى الإنسان الذي يجلس لساعات طويلة كل يوم وراء الصندوق في السوبرماركت، والآخر الذي يملأ الرفوف بالبضائع في حين يدخل الآخرون السوق على عجل ليلتقطوا ما يريدون، ويدفعوا، ويهربوا بسرعة! هل سيهمنا دين ذلك العامل النبيل، أو أصله، أو كيف يعيش حياته، أو إن كان يأكل هذا اللحم أو غيره، أو يصافح الناس أو لا يصافح؟ وهل سننسى الأطباء الذين ضحوا بحياتهم وهم يحاولون إنقاذ حياة الآخرين، دون أن يفكروا بغير القسم الذي أقسموه، فقضوا وهم أوفياء لعهودهم؟ هل سننسى أننا، مهما بلغ غرورنا ومهما بلغت عجرفتنا، ومهما تجبرت أنظمتنا، تأتينا ساعة ننهار فيها وتنهار أنظمتنا أمام فيروس؟ العقلاء منا لن ينسوا أبدا استخلاص الدروس.

إن ما هو أعظم من التغيرات الاقتصادية والتغيرات السياسية التي ستحدث، هو ما سيحصل في نفوسنا وفي دواخلنا كأفراد: هل سنحاسب أنفسنا على تقصيرنا تجاه بعضنا البعض، فنصبح بشرا نتقبل بعضنا بعضا كأعضاء متساوين في أسرة الإنسانية، وندخر كل طاقاتنا من أجل ألا تعيش أجيالنا القادمة كورونا أخرى؟ هذا هو، على أية حال، العالم الذي نتطلع إليه.

د. عمر ظاهر

د. عمر ظاهر كاتب دنماركي من أصل عراقي. أستاذ اللغة العربية في جامعة أورهوس (2005-2011)، وفي جامعة جنوب الدنمارك (2011-2019). له مؤلفات عديدة باللغتين العربية والدنماركية، منها: تأملات في فلسفة اللغة: خصوصية اللغة العربية وإمكاناتها (2008) حول موضوع لغة الأم (بالدنماركية) (2016)
زر الذهاب إلى الأعلى
Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock