مقترح حظر الحجاب يكشف مأزق رئيسة الوزراء وقادة الجمعيات الإسلامية

“الغريق يتعلق بقشة”، هكذا تبدو صورة رئيسة الوزراء الدنماركية ميتيه فريدريكسن في هذه الأيام، وهي تحاول أن ترمم صورتها أمام الناخب الدنماركي، بعد سلسةٍ من الفضائح والإخفاقات الحكومية على صعد مختلفة، فمن تعجرفها في اتخاذ القرارات السياسية، إلى خسائر الخزينة التي بلغت عشرات المليارات بسبب تفردها بالقرار، وصولا إلى محاولتها اليائسة لاستخدام ورقة الأجانب في حملتها الانتخابية، من أجل المحافظة على مفاتيح مكتب رئاسة الوزراء وعجزها عن تقديم حلول عملية لأزمة الطاقة وغلاء الأسعار، فرأيناها ترفع قناعها وتصوب ذخيرتها الإعلامية نحو الفئات الضعيفة في هذا المجتمع، فمؤتمرات صحافية حول استفحال الجريمة في صفوف الأجانب ومنشورات على الفيسبوك تتحدث عن نظرية “القيم الأفضل” وأخيرا مقترحات لجنة “معركة المرأة المنسية”، هذه اللجنة التي تربط أغلب أعضائها علاقات وثيقة بحزب رئيسة الوزراء.

ترسبات أفكار استعلائية ومأزق سياسي
السيدة ميتيه كشفت خلال الأسابيع القليلة الماضية عن عقلية انتهازية واستفزازية لا يمكن تفسيرها إليَّ كرغبة في الحفاظ على مستقبلها السياسي، حتى لو أدى ذلك إلى إحداث صدعٍ كبيرٍ في مجتمعنا الدنماركي، أعلم أن مواقف رئيسة الوزراء كانت منذ توليها قيادة الحزب الاجتماعي الديمقراطي في عام ٢٠١٥، تميل إلى الأفكار اليمينية في ملف الأجانب، وبعض القضايا التي تهم الأجانب في البلاد كموضوع المدارس الخاصة، واللاجئين السوريين، وتطورت هذه الميول تدريجيا خلال الأعوام السبعة الماضية، فرأينا  السيدة ميتيه تغازل حزب الشعب الدنماركي وتعانق مسؤوليه، لا بل وأيضا تتبنى بعض مواقفهم المتطرفة. هل هذه هي فعلا سليلة قادة الحزب الاجتماعي الديمقراطي في سبعينات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؟ هل يوجد فيها شيء مِن (أنكر يورنسين وسفيند أوكن وباول نوريب راسموسن وموغنسن لوكتفت)؟. أين الفكر السياسي الذي يدعم ويعزز أطر التعاون الاجتماعي والإنساني في المجتمع؟ أين قيم التكافل؟ أين قيم المساواة والحق في الحياة الكريمة والدفاع عن الفئات الضعيفة ودعمها، بعيدا عن الضغط النفسي ومحاولات التحكم الاجتماعي وفرض قيمة معينة على المواطنين بحجج واهية تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ولا تطبقها.  أين أيدولوجية حزب رئيسة الوزراء؟ وبالطبع أين أعضاء هذا الحزب من أصول عربية، ليُخرجوا رئيسة الوزراء من غفلتها الفكرية؟  أم هم أنفسهم غطّوا في سبات عميق على كراسيهم!

لا شك أن تصريحات رئيسة الوزراء الأخيرة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تعكس ترسبات أفكار استعلائية قديمة في تركيبتها الفكرية ومأزقها السياسي الحالي، الذي تحاول اليوم أن تخرج منه عبر استعطاف الناخبين أصحاب التوجه اليمني المتطرف ومن لديهم تخوف من الإسلام والأجانب، تكتيك سياسي يشكك المراقبون في قدرته على جر الأحزاب الأخرى للحديث عن هذه القضايا، ولسخرية القدر، تقف اليوم أحزاب اليمين الكبرى كحزب المحافظين وأيضا حزب الفنستره، موقف غير الراغب  في مشاركة رئيسة الوزراء العزف على هذه الأسطوانة المشروخة، ولا أن يدخلوا في وحل مستنقع استجداء اليمين المتطرف؛ ليس لأنهم يتعارضون معها في بعض الأفكار، ولكن لأن قادة هذه الأحزاب يتمسكون في بعض القيم الليبرالية عندما يدور الحديث عن الأجانب والأقليات – في أحسن الأحوال -أو لأنهم تركوا هذه المهمة لحليفتهم المنتظرة، السياسية المثيرة للجدل إنجر ستيبورج.   

“عورة” قادة المؤسسات الإسلامية
هذه الصورة المقلوبة في المشهد السياسي الدنماركي اليوم تضع عرب ومسلمي البلاد، بالإضافة للأقليات العرقية والدينية الأخرى في موقف انتخابي صعب، مع اقتراب موعد افتتاح مراكز الاقتراع، فبقاء السيدة ميته على رأس الحكومة بهذه الطريقة وبهذه الأفكار لن يساهم كثيرا في تعزيز قنوات التواصل في المجتمع على العكس، سيثبت أن أصوات اليمين المتطرف أصبحت هي بيضة القبان؟ وهنا يأتي دور المؤسسات والجمعيات العربية والإسلامية وكذلك مؤسسات الأقليات الأخرى، هذا الدور الذي لا نكاد نراه بالعين المجردة وأكبر دليل على ذلك غيابها الكامل عن المشهد في الساعات الأولى لصدور مقترح حظر الحجاب.  

وفي الحقيقة، هذا الغياب أصبح تحصيلًا حاصلًا، يعكس القيمة الحقيقة لهذه المؤسسات وعقلية قادتها ومسؤوليها، ولحسن الحظ وكما نعلم فقوانين الطبيعة لا تقبل الفراغ، تصدرت المشهد خلال الأيام الماضية أصوات شبابية وجمعيات ناشئة وكذلك جمعيات لأقليات دينية ومؤسسات حقوقية أبلت بلاءً حسنًا وكشفت بحضورها القوي “عورة” قادة المؤسسات الإسلامية المختلفة في الدنمارك، الذين ما افتكوا يتغنون ليلا نهاراً بما يعرفونها على أنها مؤسسات قوية وفعالة ومؤثرة و”منارات” تحت سماء هذه البلاد. صمت هذه المؤسسات على مدار أكثر من ١٢ ساعة من صدور الأنباء عن المقترح، لا يترك مجالا للشك أننا أمام بنية مؤسساتية متهالكة لا ترقى لما يحتاجه مسلمي البلاد، ولا حتى البلاد بكاملها. فقوى اليمين المتطرف تتغذى على فساد هذه الجمعيات وتصفق صباحا ومساء لفشل القيادات الحالية في المركز والجمعيات.  ولذلك أنا أرى أن الدنمارك بجميع أطيافها بحاجة لمؤسسات إسلامية وعربية قوية ونشطة تساهم في تطوير المجتمع وتشارك في طرح الأفكار، تعارك إذا تطلب الأمر وتشارك كذلك من منطلق المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية.  مؤسسات تؤمن بالتعددية والشفافية والعمل من أجل مستقبل الأجيال القادمة.  

وأنا هنا بالتأكيد لا أتحدث عن المسجد الصغير في مدينة Vordingborg أو جميعة الصداقة في Næstved أنا اتحدث عن الجمعيات والمؤسسات التي تملك في أرصدتها البنكية (بحسب الأرقام المنشورة على موقع وزارة الكنائس) ملايين الكرونات.

مستنقع نتن من الخلافات الشخصية البغيضة
للأسف بعض هذه المؤسسات وقادتها لم يكونوا على علم بوجود اللجنة التي أصدرت المقترح، وعندما تسألهم عن أي رؤية أو استراتيجية لتحسين أوضاع المسلمين والعرب في الدنمارك تصبحهم آذانهم وأعينهم من طين وعجين، وبالفعل خلال الأيام القليلة الماضية تعززت صورة النعامة في ذهني عندما أقرأ مسمى أي مسؤول في هذه الجمعيات. فهل هؤلاء حقا من يستطيعون مواجهة المخاطر التي تحدق بنا وتقليلها وكذلك تشخيص الإيجابيات في هذا المجتمع وتعزيزها، ناهيك عن إتقان فن بناء التحالفات، وتطوير الاستراتيجيات والأولويات ووضع المناهج التربوية والثقافية التي تقارب بين فئات المجتمع.  فالخطاب الإعلامي الحالي وكذلك بعض الأفكار المتعجرفة من بعض الأحزاب السياسية ليست حتمية كونية لا يمكن تغييرها، بالعكس فالمجتمع هنا يتمتع بليونة في تفكيره، ويعج بالمؤسسات والجمعيات الراغبة في تغيير نهج الخطاب الرافض للأجانب.

الحالة الراهنة للمؤسسات الإسلامية والعربية جاءت كنتيجة طبيعية لعقلية الاستعلاء والاستفراد بالقرار وحالة التقوقع واختيار العاملين في المؤسسات بناء على الولاء لا الكفاءة على مدار عشرات السنوات، فأوقعت أصحابها في مستنقع نتن من الخلافات الشخصية البغيضة والاتهامات المتبادلة بالسرقات والاختلاسات والخ. شاهدنا بعضها على صفحات الصحف الدنماركية، فأنا هنا لا أكشف سرا. فأضاعت هذه التصرفات على المسلمين في هذه البلاد خلال السنوات الماضية فرصة النهوض بواقعهم وتجميع صفوفهم على مبدأ التعاون المشترك بعيدا عن الخلافات التي يتم استيرادها من البلدان الأم والتبعيات السياسية والأيدولوجية التي لا تصلح لهذه البلاد، بالرغم من وجود الموارد المادية الكبيرة والطاقات البشرية الوفيرة في صفوف العرب والمسلمين.

ننتظر الإجابة
ردود الفعل على المقترح المذكور، ومن دواعي الفرح، أظهرت الطاقة الكبيرة الكامنة في صفوف الشباب وأعادتهم إلى الواجهة بجدارة، وتركت “قادة الجمعيات” في مأزق، ينظرون إلى متطلبات هذه المرحلة الكبيرة أمام قدراتهم المتواضعة، فهل سيعودون إلى رشدهم وينزلون من أبراجهم العاجية ويتحملون مسؤولياتهم بكل أمانة وثقة وشجاعة؟ أم سيكابرون كما فعلوا خلال السنوات الماضية، ويضحون بكل القيم الإنسانية والاجتماعية كما تفعل رئيسة الوزراء اليوم ليحتفظوا بمناصبهم؟  الأخيرة يمكننا تغييبها عن الساحة عبر صناديق الاقتراع، وليعلمنا قادة المؤسسات العربية والإسلامية عبر أي صناديق يأتون أو يذهبون.

الأسابيع والسنوات القادمة ستعطينا الإجابة، فالتاريخ – كما نعلم – لا يرحم، والحاضر لن يغفر.

المحرر

مدير الموقع
زر الذهاب إلى الأعلى
Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock