هؤلاء نحميهم .. وأولئك نحمي أنفسنا منهم


يبدو أن رئيسة الوزراء السيدة ميته فريدريكسن قد أصابها الإعياء وهي تتعامل مع قضية شائكة ومعقدة مثل جائحة كورونا. وهي، ورغم أن الكثيرين يشهدون لها بمقدرة فائقة في التعامل مع الأزمة، تخشى مكائد الأحزاب اليمينية التي تثير تساؤلات مقلقة بشأن تعاملها مع هذا الأزمة. وهي ربما تدرك الحجم الحقيقي للأزمة التي يعيشها اليمين، المتطرف منه بشكل خاص والمتمثل بحزب الشعب الدنماركي، وأن هذا اليمين يحاول الخروج من أزمته بخلق أزمة مفتعلة لرئيسة الوزراء وحكومتها الموصوفة، حقا أو باطلا، باليسارية. إلا إن السيدة رئيسة الوزراء عاجزة عن إبداع استراتيجية جدية للتعامل مع الأساليب الشعبوية لحزب الشعب الدنماركي، وتقفز في تعاملها تلقائيا إلى الوسائل الكلاسيكية التي استخدمها حزبها وبعض من الأحزاب اليسارية الأخرى أثناء صعود حزب الشعب الدنماركي، أي وسيلة المزايدة على قضايا الأقليات العرقية، والتنافس مع هذا الحزب على كسب الأصوات، بالتخلي تدريجيا عن مواقع اليسار وتبني نفس مواقف حزب الشعب الدنماركي العنصرية البغيضة.

هذا ما أصبح واضحا في مؤتمرها الصحفي الذي عقدته يوم السبت الماضي، وتناولت فيه من بين أمور عديدة مسألة إصابة عدد من المواطنين من أصل صومالي بعدوى فيروس كورونا. يبدو أن هذا العدد يفوق نسبة هذه الأقلية العرقية قياسا إلى المصابين بين سكان الدنمارك ككل.

غاية في نفس يعقوب
في مجال الحرب التي يشنها حزب الشعب الدنماركي ضد الأقليات العرقية في المجتمع الدنماركي منذ قيامه، نجد أنه لم يترك وسيلة بغيضة إلا واستخدمها في تلك الحرب، ومن بين تلك الوسائل إساءة استخدام الإحصائيات، مثلا عن عدد العاطلين عن العمل، أو المخالفين للقانون، أو أي شيء. ونحن نعرف جيدا أن الإحصائيات التي تظهر على شكل أرقام تشير إلى وجود ظاهرة، إلا إنها لا تقدم وسيلة موضوعية لتفسير الظاهرة نفسها. مثلا، إن وجود عدد أكبر من العاطلين بين الأقليات العرقية قياسا إلى الدنماركيين ليس بسبب رفض هؤلاء العمل، بل بسبب رفضهم في العمل.

وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة  بروز إحصائيات في الإعلام عن واقع الإصابات بالكورونا بين الأقليات العرقية، مثلا أن نسبة الإصابة بينها قياسا إلى عددها أعلى من نسبة الإصابات في صفوف الأغلبية العرقية الدنماركية. إن مثل هذه الإحصائية تبدو على السطح بريئة، وتقع في نطاق اعتماد المجتمع الدنماركي على مختلف أشكال الإحصائيات في إدارة المجتمع. ويمكن مقارنة مثل هذه الإحصائية بتلك التي عن عدد المصابين في صفوف الفئات العمرية، أو حتى في صفوف الرجال والنساء.

لا ضرر أبدا في القيام بالإحصاء، وفي عرض الإحصائيات، إلا اللهم إذا كانت لغاية في نفس يعقوب، وهي الحالة التي ترتبط تماما بسياسات حزب الشعب الدنماركي في محاولة جر قضية صحية بحتة على مستوى العالم كله إلى قضية عرقية أساسية في السياسة الدنماركية.

محاولة إعطاء المرض صفة عرقية
فيما يتعلق بفيروس كورونا المتسبب في مرض كوفيد-19، فإن الغموض ما يزال يلفه من كل جهة، فلم يتأكد بعد مصدره، ولم تتضح حتى العوامل التي تجعل أشخاصا دون غيرهم يصابون بالمرض. لقد سمعنا في البداية أنه يصيب أكثر ما يصيب كبار السن، والذين يعانون من أمراض مركبة ومزمنة، حيث تكون الخطورة على حياتهم كبيرة. لكن تبين أنه يصيب الشباب والأطفال أيضا ويقتلهم. ثم رأينا إحصائيات عن كون الرجال أكثر عرضة للمرض من النساء. ثم عرفنا أن الأشخاص الذين يحملون صنفا معينا من أصناف الدم أكثر عرضة للإصابة بالعدوى. ورأينا أن كل بلدان العالم وشعوبها تصاب بالمرض، الأمريكييون والإيطاليون البيض تماما مثل الهنود والأفارقة. أي إن المرض ليس له طابع عنصري كما يتمناه حزب الشعب الدنماركي. وعرفنا أيضا طرق الوقاية من العدوى المتمثلة في النظافة والإبقاء على التباعد الاجتماعي بين الأشخاص.

يجب ألا يغيب عن بالنا أىه في الدنمارك، كما في بلدان أوروبية أخرى، حصلت المذبحة الكبرى في مجال الكورونا في بيوت رعاية المسنين، الأمر الذي يكشف خللا في نظام الرعاية الصحية في هذه البلدان، بما فيها الدنمارك، في نفس الوقت الذي يريد حزب الشعب الدنماركي إعطاء المرض صفة عرقية.

وسائل شعبوية للقفز على أزمة الكورونا
هناك أمران مقلقان فيما يتعلق بالهجمة الإعلامية السياسية الشرسة التي تتعرض لها الأقلية الصومالية. أولهما، أننا عرفنا في كل الحالات السابقة عن هذه المجموعة أو تلك الأكثر عرضة للإصابة أن سياسة المجتمع تدور حول السؤال: كيف نحمي هؤلاء بأفضل شكل؟ أما بخصوص أقلية عرقية تم لسبب ما تسجيل نسبة عالية من الإصابات في صفوفها، فإن سياسة حزب الشعب الدنماركي تتلخص في السؤال: كيف نحمي أنفسنا من هذه الأقلية؟ وهنا طبعا يظهر ما يطلق عليه بالدنماركية (indre svin) ليقترح كل وسيلة مخزية، مثل العزل، وإغلاق المناطق السكنية لهذه الأقلية، وغيرها.

أما الأمر المقلق الثاني فهو أن تخرج علينا رئيسة الوزراء (من حزب Socialdemokratiet ) في مؤتمرها الصحفي يوم السبت الماضي بخطاب يحمل نفس خطاب حزب الشعب الدنماركي، وكأنها لم تتخلص بعد من عقدة الحزب تجاه حزب اليمين المتطرف، فهي ما تزال تخاف من وسائله الشعبوية، وتندفع إلى التنافس معه على الأصوات. وهي لا تعرف أنها في الحقيقة تمد يد المساعدة لذلك الحزب لتنقذه من أزمته الداخلية بإبراز صحة ما يذهب إليه من عداء ضد الأقليات العرقية. هذا مدعاة لقلق كبير، في الواقع.

إن مشوار حزب الشعب الدنماركي قد وصل نهايته، وأصاب  سياساته الوهن والعفن، ففقد الكثير من شعبيته، ودبت الخلافات في صفوف قادته وزعمائه، وتشير كل الدلائل على أن تأثيره في طريقه إلى الاضمحلال. وهو يعمل كل ما بوسعه، وبوسائله الكلاسيكية المعهودة، للبقاء على قيد الحياة. وكانت آخر المحاولات اليائسة القفز على جائحة الكورونا وإعطائها بعدا عرقيا بقصد إخافة الدنماركيين من الأقليات العرقية، والعودة إلى أيام العز الآيلة للزوال. مؤسف حقا أن تمد رئيسة الوزراء (اليسارية) يدها لإنقاذ حزب الشعب الدنماركي من نهايته.

ولكن، لحسن الحظ فليس المشهد قاتما كما أوحى به خطاب السيدة رئيسة الوزراء، فهناك على الأقل أصوات تتميز بالإنسانية، وتتصف بالموضوعية، وتتخذ مواقف بناءة تبقي جذوة العقلانية في السياسة الدنماركية متقدة. هذا ما لمسناه في موقف حزب الراديكال فينسترة وزعيمه مورتن إيستكورد الذي يستحق كل الاحترام. وإلا فإننا نخشى أن نضطر إلى السؤال عما إذا كان هناك خط فاصل بين اليمين واليسار في الدنمارك؟

د. عمر ظاهر

د. عمر ظاهر كاتب دنماركي من أصل عراقي. أستاذ اللغة العربية في جامعة أورهوس (2005-2011)، وفي جامعة جنوب الدنمارك (2011-2019). له مؤلفات عديدة باللغتين العربية والدنماركية، منها: تأملات في فلسفة اللغة: خصوصية اللغة العربية وإمكاناتها (2008) حول موضوع لغة الأم (بالدنماركية) (2016)
زر الذهاب إلى الأعلى
Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock