ليز نورغورد تُطفئ شمعتها الـ 103

ولدت ليز (أو ليزا، وربما كان اللفظ الدنماركي الأقرب “ليسي” من أصل اسمها إليسي)، في 17 حزيران سنة 1917، واختارت العمل في الصحافة رغماً عن إرادة والدها. أثبتت ليزا بسرعة قدراتها الكتابية الممهورة بقوة الملاحظة والسخرية الذكية والجرأة في التعبير ومواجهة المجتمع بفئاته كلها – بدءً من الأب وسلطته إلى العائلة الممتدة والمدرسة والكنيسة ورجال المال والسياسة والمجتمع العريض-، بشفافية وموضوعية.

احتل الكتاب الذي يروي سيرتها الذاتية “Kun en Pige” الصادر سنة 1992، المرتبة الأولى في مبيعات الكتب لذلك العام، وقد ترجم الكتاب إلى العربية سنة 2017 بمناسبة مئوية ليزا، وجاء بعنوان “مجرّد أنثى”.

انطلقت ليزا في عملها الصحفي من مدينتها، روسكيلِه، حيث كتبت في مواضيع المرأة والمجتمع، لتعمل لاحقاً في مجلات وصحف عديدة وتصبح مراسلة في مواضع متقدمة لجريدة “بوليتيكن”، وتبدأ بحصد الجوائز عن أعمالها الأدبية.

تمثال برونزي يمثّل “ليزا نورغورد” بحجم الكاتبة الطبيعي في شارع “ألغاذه” في مدينة روسكيلده وعلى المقعد أسماء كتبها والمسلسلات التي كتبت نصوصها. يتوسط القائمة عنوان “مجرد أنثى”

أثبتت ليزا أهميتها على خارطة الأدب الدنماركي من خلال عملين في الأساس، الأول هو الحلقات التلفزيونية لمسلسل ماتادور الشهير التي كتبتها على مدى أربع سنوات (1978-1982)، والثاني هو سيرتها الذاتية المذكورة أعلاه (“مجرد أنثى).

أهمية هذين العملين هو أنهما يسجلان تفاصيل الحياة في الدنمارك ويحيطان بجوانبها كلها، من الناحية الاقتصادية والسياسة إلى الاجتماعية والفكرية. ولذلك لم يكُن مستغرباً أن يحتل مسلسل “ماتادور” الصدارة في المشاهدة في فترة جائحة “كورونا”، ليس فقط لأن المرء عادة يعود ليستذكر مراحل مرّت على تاريخ بلاده وينبش في الماضي، ربما ليتّخذ منه العبر. وأميل إلى تشبيه هذا العمل بثلاثية نجيب محفوظ (“بين القصرين” 1956، “قصر الشوق” 1957، و”السُّكَّريَّة” 1957) التي تصور حقبة هامة من تاريخ مصر.

العمل الثاني، والذي لا يقل أهمية، هو سيرة نورغورد الذاتية، والذي قُمت بترجمته إلى العربية وصدر في حزيران 2017 وتسلّمت الكاتبة النسخة الأولى منه يومان قبل عيد ميلادها المئة الذي حل في 14 حزيران 2017.

الحقيقة أن الدافع وراء الترجمة كان الكتاب نفسه وما فيه من معلومات قيّمة وأسلوب كتابي جميل ولطيف مليء بالسخرية والدعابة من جهة، ومصادفة تلف النظر من جهة أخرى، ألا وهي أن هذه الكاتبة الدنماركية ولدت في السنة ذاتها التي ولدت فيها الكاتبة الفلسطينية، فدوى طوقان.

فهل من تشابه بين كاتبة فلسطينية مسلمة ابنة عائلة برجوازية من مدينة نابلس وكاتبة دنماركية من مدينة روسكيله؟

إن تركنا جانباً حقيقة أن نابلس تعتبر المدينة الأهم (ربّما) بعد القدس من بين مدن فلسطين، والأولى اقتصادياً (أيضاً ربمّا) وقد لعبت دوراً هامّاً جداً في صناعة الصابون وتصديره بل ودفع الضريبة للحاكم العثماني بالصابون! وأن روسكيلِه تعتبر مدينة الميناء التجاري المهم والعاصمة الأولى للدنمارك قبل أن تصبح كوبنهاغن هي العاصمة، وعدنا إلى هاتين الوليدتين اللتين جمع بين تاريخ ولادتهما الزمن نفسه، لكل الجغرافيا فصلت بينهما ما بين شمال أوروبا وشرق المتوسط، فماذا نجد؟

“أتيت إلى هذا العالم كخطأ في “الطّلبيّة“.

“والدي، الّذي اعتاد في حينه ولسنين طوال أن يحصل على كلّ ما يريد بمجرّد إيماءة من إصبعه – ومن ضمن ذلك أمّي- كان قد أوصى على صبيّ، وكم كانت خيبته عظيمة حين علم بتاريخ 14 حزيران 1917، أنّ الطّفل الّذي أوصى عليه قد وصل، إنّما مع نقصٍ في تفصيل صغير.”

(ليز نورغورد، “مجرد أنثى” الطبعة الأولى، سند، الناصرة-كوبنهاغن، ص 9)

“خرجتُ من ظُلُمات المجهول إلى عالم غير مُستعدٍّ لتقبُّلي. أمي حاولت التخلّص مني في الشهور الأولى من حملها بي. حاولت وكررت المحاولة، ولكنها فشلت….

“كان المال والبنون بالنسبة له {لأبي} زينة الحياة الدنيا، وكان يطمع بصبيّ خامس. لكني خيّبت أمله وتوقّعاته”

(فدوى طوقان (1917- 2003)، “رحلة جبليّة، رحلة صعبة”، من الصفحتين 12 و13، عن “دار الشروق للنشر والتوزيع” عمّان، 1985).

  وهكذا نرى أن كلتيهما وجدتا عدم القبول منذ لحظة ولادتهما، واستمر التحدي وسلوك الطريق الصعب طيلة حياتيهما إلى أن حققت كل منهما ذاتها، بطريقة أو بأخرى.

  اليوم، ونحن في خضم جائحة كورونا، اللجوء وانتقال الناس من بلد إلى بلد، وأزمة اقتصادية هنا وجوع هناك، وعنصرية مفضوحة يتردد صداها في القارات كلها وقد كانت حادثة مقتل جورج فلويد القشة التي كسرت ظهر البعير، فإن العودة لمذكرات ليز نورغورد تضيء لنا الكثير عن الحياة منذ قرن مضى.

عنصرية
وسأبدأ من النقطة الأخيرة، حيث ذكرت نورغورد أن أسقف كنيسة روسلكه رفض في طفولتها أن يسمح لامرأة أمريكية سوداء بالترتيل في كنيسة روسكيله (وهي كنيسة أبرشية أي الأولى في البلاد)، ووافق معه أهل رعيته، بادعاء أن صوت امرأة سوداء لا يليق بهكذا مكان أو مناسبة. هذا في وقت كان أحد جيران أهل ليز يذهب إلى أفريقيا بصحبة كاهن أمريكيّ ليعلم السود الحضارة.

أزمة اقتصادية
تذكر ليزا أزمات اقتصادية عدة وفترات صعبة مرت بها الدنمارك، ففي طفولتها مثلاً، كان هناك نقص في المساكن، ولذلك مُنع الناس من استخدام بيتهم كله، وكان على صاحب المُلك أن يؤجر جزءً من بيته. وهذا ما حدث حين أتى الأستاذ “مولر” وسكن معهم هو وزوجته وولداه ودجاجتهم وديكهم أيضاً.

كذلك نقرأ عن فقر الأطفال في المدرسة والشارع، ففي المدرسة مقاعد خُصصت للفتيات اللواتي أعلن آباؤهم إفلاس مصالحهم فجأة، وتحولوا من ملاكين إلى طالبي مساعدة. وعن أطفال حفاة عراة وأسنانهم سوداء وعن بنات يعملن ساعات طويلة في المزارع لقاء المنام والطعام، ويا له من منام وطعام! ثم هناك النقص في الحمامات واستخدام النساء للحمام مرة أو مرتين أسبوعيا ولعدد محدد من الساعات.

حرب
الحروب التي شهدتها الدنمارك عديدة، وكانت الحرب العالمية الأولى قد بدأت ثلاث سنوات قبل ولادة ليزا، وفي سنة 1920 خسرت الدنمارك شمال ألمانيا، وهو ما تذكره ليزا عند الحديث عن جدها الذي كان يمسك بيدها وهو يقف متأثراً مهزوزاً أثناء تحية العلم، حالماً بعودة ما ضاع من أرض اعتبرها حقّاً دنماركياً خالصاً. ومن الجدير ذكره أن هذه السنة (1920) شهدت أيضاً مظاهرات تدعو إلى تخلي الملك عن العرش، أي مظاهرات تحمل شعار “ارحل!” التي سمعناها في “الربيع العربي” أيضاً. ولاحقاً تأتي الحرب العالمية واحتلال الألمان للدنمارك، ثم الحرب الباردة والخوف من المعسكر الاشتراكي، مما أدى إلى بناء حوالي 1000 “بونكر” في الدنمارك. وإلى أزمة النفط سنة 1973 حين خاف الدنماركيون الموت برداً ونشطت الـ “كولوني هاوي” لتوفير الطعام.

المرأة
ولدت ليز سنتان بعد أكبر مظاهرة للنساء في كوبنهاغن وحصول المرأة على حقوقها دستورياً، وهو ما نشط في ستينات القرن الماضي حين ظهرت حركة “الجوارب الحُمر” المطالبة بالمساواة بين الجنسين. لكن ليزا نفسها رأت المرأة الدنماركية نضع على رأسها ما يشبه الحجاب، وسمعت وشهدت انتحار أكثر من فتاة بسبب “الشرف”، “العار” أو نوعاً من الاتجار بالفتيات. 

الجوانب التي تربط ما بين فدوى وليزا عديدة، لكن ما شهده المشرق من نهضة سبّاقة في مطلع القرن الماضي، ارتد كله قهراً وتقهقراً، والأسباب عديدة، محلية ومستوردة!

سوسن قسيس

ولدتُ في مدينة الناصرة ودرستُ فيها، ثم درست الأدب الإنكليزي وتاريخ الفنون في القدس. عملت بالتعليم في حيفا وحصلت على الماجستير في الأدب العربي من جامعتها. تعمل في الترجمة.
زر الذهاب إلى الأعلى
Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock